كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالكلب العقور، فروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة بإسناد حسن، أنه الأسد، قاله ابن حجر، وعن زيد بن أسلم أنه قال: وأيُّ كلب أعقر من الحية.
وقال زفر: المراد به هنا الذئب خاصة، وقال مالك في الموطأ: كل ما عقر الناس، وعدا عليهم، وأخافهم، مثل الأسد، والنمر، والفهد، والذئب، فهو عقور، وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان، وهو قول الجمهور.
وقال أبو حنيفة: المراد بالكلب هنا هو الكلب المتعارف خاصة. ولا يحلق به في هذا الحكم سوى الذئب، واحتج الجمهور بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] فاشتقها من اسم الكلب، وبقوله صلى الله عليه وسلم، في ولد أبي لهب «اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك فقتله الأسد». رواه الحاكم وغيره بإسناد حسن.
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق أن السباع العادية ليست من الصيد، فيجوز قتلها للمحرم، وغيره في الحرم وغيره. ملا تقرر في الأصول من أن العلة تعمم معلولها، لأن قوله: «العقور» علة لقتل الكلب فيعلم منه أن كل حيوان طبعه العقر كذلك.
ولذا لم يختلف العلماء في أن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بكرة المتفق عليه «لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان» أن هذه العلة التي هي في ظاهر الحديث الغضب تعمم معلولها فيمتنع الحكم للقاضي بكل مشوش للفكر، مانع من استيفاء النظر في المسائل كائنًا ما كان غضبًا أو غيره كجوع وعطش مفرطين، وحزن وسرور مفرطين، وحقن وحقب مفرطين، ونحو ذلك، وإلى هذا أشار في «مراقي السعود» بقوله في مبحث العلة:
وقد تخصص وقد تعمم ** لأصلها لكنها لا تخرم

ويدل لهذا ما اخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري أن النَّبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم فقال: «الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغراب ولا يقتله، واكللب العقور والحدأة والسبع العادي» وهذا الحديث حسنه الترمذي.
وضعف ابن كثير رواية يزيد بن أبي زياد، وقال فيه ابن حجر في التلخيص فيه يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف. وفيه لفظة منكرة وهي قوله: «ويرمي الغراب ولا يقتله»، وقال النووي في شرح المهذب: إن صح هذا الخبر حمل قوله هذا على أنه لا يتأكد ندب قتل الغراب كتأكيد قتل الحية وغيرها.
قال مقيده: عفا الله عنه: تضعيف هذا الحديث، ومنع الاحتجاج به متعقب من وجهين:
الأول: أنه على شرط مسلم، لأن يزيد بن أبي زياد من رجال صحيحه وأخرج له البخاري تعليقًا، ومنع الاحتجاج بحديث على شرط مسلم لا يخلو من نظر، وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه. أن من أخرج حديثهم في غير الشواهد والمتابعات أقل أحوالهم قبول الرواية فيزيد بن أبي زياد عند مسلم مقبول الرواية، وإليه الإشارة بقول العراقي في ألفيته:
فاحتاج أن ينزل في الإسناد ** إلى يزيد بن أبي زياد

الوجه الثاني: أنا لو فرضنا ضعف هذا الحديث فإنه يقويه ما ثبت من الأحاديث المتفق عليها من جواز قتل الكلب العقور في الإحرام وفي الحرم والسبع العادي، إما أن يدخل في المراد به، أو يلحق به إلحاقًا صحيحًا لا مراء فيه، وما ذكره الإمام أبو حنيفة- رحمه الله- من أن الكلب العقور يلحق به الذئب فقط، لأنه أشبه به من غيره لا يظهر، لأنه لا شك في أن فتك الأسد والنمر مثلًا أشد من عقر الكلب والذئب، وليس من الواضح أن يباح قتل ضعيف الضرر، ويمنع قتل قويه، لأن فيه علة الحكم ويادة، وهذا النوع من الإلحاق من دلالة اللفظ عند أكثر أهل الأصول، لا من القياس، خلافًا للشافعي وقوم، كما قدمنا في سورة النساء.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه: قلت: العجب من أبي حنيفة- رحمه الله- يحمل التراب على البر بعلة الكيل، ولا يحمل السباع العادية على الكلب بعلة الفسق، والعقر، كما فعل مالك، والشافعي، رحمهما الله.
واعلم أن الصَّيد عند الشافعي هو مأكول اللحم فقط. فلا شيء عنده في قتل ما لم يؤكل لحمه والصغار منه، والكبار عنده سواء، إلا المتولد من بين مأكول اللحم، وغير مأكوله، فلا يجوز اصطياده عنده، وإن كان يحرم أكله، كالسمع وهو المتولد من بين الذئب، والضبع، وقال: ليس في الرخمة والخنافس، والقردان والحلم، وما لا يؤكل لحمه شيء. لأن هذا ليس من الصَّيد، لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، فدل أن الصَّيد الذي حرم عليهم، هو ما كان حلالًا لهم قبل الإحرام، وهذا هو مذهب الإمام أحمد.
أما مالك- رحمه الله- فذهب إلى أن كل ما لا يعدو من السباع، كالهر والثعلب، والضبع، وما أشبهها، لا يجوز قتله. فإن قتله فداه، قال: وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم، فإن قتلها فداها، وهي مثل فراخ الغربان.
قال مقيده عفا الله عنه: أما الضبع فليست مثل ما ذكر معها لورود النص فيها، دون غيرها. بأنها صيد يلزم فيه الجزاء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ولم يجز مالك للمحرم قتل الزنبور، وكذلك النمل والذباب والبراغيث، وقال: إن قتلها محرم يطعم شيئًا، وثبت عن عمر رضي الله عنه غباحة قتل الزنبور، وبعض العلماء شبهه بالعقرب، وبعضهم يقول: إذا ابتدأ بالأذى جاز قتله، وإلا فلا، وأقيسها ما ثبت عن عمر بن الخطاب. لأنه مما طبيعته أن يؤذي.
وقد قدمنا عن اشافعي، وأحمد، وغيرهم، أنه لا شيء في غير الصَّيد المأكول، وهو ظاهر القرآن العظيم.
المسألة الرابعة: أجمع العلماء على أن المحرم إذا صاد الصَّيد المحرم عليه، فعليه جزاؤه، كما هو صريح قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الكعبة أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلك صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95].
اعلم أولًا أن المراد بقوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] أنه متعمد قتله، ذاكر إحرامه، كما هو صريح الآية. وقول عامة العلماء.
وما فسره به مجاهد، من أن المراد أنه متعمد لقتله ناسٍ لإحرامه، مستدلًا بقوله تعالى بعده: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] قال: لو كان ذاكرًا لإحرامه، لوجبت عليه العقوبة لأول مرة. وقال: إن كان ذاكرًا لإحرامه، فقد بطل حجه لارتكابه محظور الإحرام غير صحيح، ولا ظاهر لمخالفته ظاهر القرآن بلا دليل. ولأن قوله تعالى: {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95]، يدل على أنه متعمد ارتكاب المحظور، والناسي للإحرام غير متعمد محظورًا.
إذا علمت ذلك، فاعلم أن قاتل الصَّيد متعمدًا، عالمًا بإحرامه، عليه الجزاء المذكور، في الآية، بنص القرآن العظيم، وهو قول عامة العلماء. خلافًا لمجاهد، ولم يذكر الله تعالى، في هذه لآية الكريمة حكم الناسي، والمخطئ.
والفرق بينهما: أن الناسي هو من يقصد قتل الصَّيد ناسيًا إحرامه، والمخطئ هو من يرمي غير الصَّيد، كما لو رمى غرضًا فيقتل الصَّيد من غير قصد لقتله.
ولا خلاف بين العلماء أنهما لا أثم عليهما، لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] الآية. وَلِمَا قدَّمنا في صحيح مسلم «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] أن الله قال: قد فعلت».
أما وجوب الجزاء عليهما فاختلف فيه العلماء.
فذهب جماعة من العلماء: منهم المالكية، والحنفية، والشافعية، إلى وجوب الجزاء، في الخطأ، والنسيان، لدلالة الأدلة. على أن غرم المتلفات لا فرق فيه بين العامد، وبين غيره، وقالوا: لا مفهوم مخالفة لقوله متعمدًا لأنه جري على الغالب، إذ العالب ألا يقتل المحرم الصَّيد إلا عامدًا، وجرى النص على الغالب من موانع اعتبار دليل خطابه، أعني مفهوم مخالفته، وإليه الإشارة بقول صاحب «مراقي السعود» في موانع اعتبار مفهوم المخالفة:
أو جهل الحكم أو النطق انجلب ** للسؤل أو جرى على الذي غلب

ولذا لم يعتبر جمهور العلماء مفهوم المخالفة في قوله تعالى: {اللاتي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] لجريه على الغالب، وقال بعض من قال بهذا القول، كالزهري: وجب الجزاء في العمد بالقرآن العظيم، وفي الخطأ والنسيان بالسنة، قال ابن العربي: إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس، وعمر فَنِعمَّا هي، وما أحسنها إسوة.
واحتج أهل هذا القول. بأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الضبع فقال: «هي صيد»، وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشًا، ولم يقل عمدًا ولا خطأ، فدل على العموم، وقال ابن بكير من علماء المالكية: قوله سبحانه: {مُتَعَمِّدًا} لم يرد به التجاوز عن الخطأ، وذكر التعمد لبيان أن الصَّيد ليس كابن آدم الذي ليس في قتله عمدًا كفارة.
وقال القرطبي في تفسيره: إن هذا القول بوجوب «الجزاء على المخطئ، والناسي والعامد»، قاله ابن عباس، وروي عن عمر، وطاوس، والحسن، وإبراهيم، والزهري، وبه قال مالك، والشافعي، وابو حنيفة، وأصحابهم.
وذهب بعض العلماء إلى أن الناسي، والمخطئ لا جزاء عليهما، وبه قال القرطبي، وأحمد بن حنبل، في إحدى الروايتين، وسعيد بن جبير، وأبو ثور، وهو مذهب داود، وروي أيضًا عن ابن عباس، وطاوس، كما نقله عنهم القرطبي.
واحتج أهل هذا القول بأمرين:
الأول: مفهوم قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] الآية، فإنه يدل على أن غير المتعمد ليس كذلك.
الثاني: أن الأصل براءة الذمة، فمن ادعى شغلها، فعليه الدليل.
قال مقيده: عفا الله عنه: هذا القول قوي جدًا من جهة النظر، والدليل.
المسالة الخامسة: إذا صاد المحرم الصَّيد، فاكل منه، فعليه جزاء واحد لقتله، وليس في أكله إلا التوبة والاستغفار، وهذا قول جمهور العلماء، وهو ظاهر الآية خلافًا لأبي حنيفة القائل بأن عليه أيضًا جزاء ما أكل يعني قيمته، قال القرطبي: وخالفه صاحباه في ذلك، ويروى مثل قول أبي حنيفة عن عطاء.
المسألة السادسة: إذا قتل المحرم الصَّيد مرة بعد مرة، حكم عليه بالجزاء في كل مرة، في قول جمهور العلماء منهم مالك، والشافعي، وأبو حنيفة وغيرهم، وهو ظاهر قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] الآية، لأن تكرار القتل يقتضي تكرار الجزاء، وقال بعض العلماء: لا يحكم عليه بالجزاء إلا مرة واحدة، «فإن عاد لقتله مرة ثانية لم يحكم عليه، وقيل له: ينتقم الله منك»، لقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] الآية.
ويُروى هذا القول عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وإبراهيم، ومجاهد، وشريح، كما نقله عنهم القرطبي، وروي عن ابن عباس أيضًا أنه يضرب حتى يموت.
المسالة السابعة: إذا دل المحرم حلالا على صيد فقتله، فهل يجب على المحرم جزاء لتسببه في قتل الحلال للصيد بدلالته له عليه أو لا؟ اختلف العلماء في ذلك، فذهب الإمام أحمد، وأبو حنيفة إلى أن المحرم الدال يلزمه جزاؤه كاملًا، ويروى نحو ذلك عن علي، وابن عباس، وعطاء، ومجاهد وبكر المزني، وإسحاق، ويدل لهذا القول سؤال النَّبي صلى الله عليه وسلم، أصحابه، «هل أشار أحد منهم إلى أبي قتادة على الحمار الوحشي»؟
فإن ظاهره أنهم لو دلوه عليه كان بمثابة ما لو صادوه في تحريم الأكل. ويفهم من ذلك لزوم الزاء، والقاعدة لزوم الضمان للمتسبب إن لم يمكن تضمين المباشر، والمباشر هنا لا يمكن تضمينه الصَّيد. لأنه حلال، والدال متسبب، وهذا القول هو الأظهر، والذين قالوا به منهم من أطلق الدلالة، ومنهم من اشترط خفاء الصَّيد بحيث لا يراه دون الدلالة، كأبي حنيفة، وقال الإمام الشافعي وأصحابه، لا شيء على الدال.